مع الأيام الأولى، التي غادرت فيها الناس بيوتها، تحت القصف الشديد، والتدمير لكل أشكال الحياة في غزة، بدأت بعمل الخيام، في الأماكن التي انتقلت إليها، كان أولئك هم الغالبية العظمى، وقليل من الناس انضم إلى بيت بعض أقاربه، أو استأجر شقة جاهزة، واستأجر البعض شقة غير جاهزة نسميها (عظم).
الخيمة مرت بعدة مراحل :
كانت بسيطة في بادئ الأمر، وكلما جاء الشتاء دخلت المياه إلى كل مكان، فأغرقت الفراش والأغطية، فتضطر لإجراء تعديلات، مرتين أو ثلاثة وربما أكثر، كانت بعض الخيام من النايلون، وأخرى من الشادر وكل منهما يقام على الخشب، والأولى قاتلة، والثانية مميتة، ولا أدري أيهما أسرع فتكاً، فقد جربت الأولى عند الأصدقاء، والثانية كانت خيمتي التي أعدت لي، أما النوع الثالث من الخيام، فهي الجاهزة، التي تصل عبر المساعدات، وأفضل هذه الخيام (السعودية، والكويتية، والإماراتية، والألمانية)، والخيام الثلاثة الأولى متشابهة كثيرا.
ونسيت أن أخبركم أنه بعد نحو ستة أشهر على ذلك الحال، حصلت على خيمة خاصة معدة من الشادر، وكانت مخزنا للمواد الغذائية في مخيمنا، وكانت فرحتي بها كبيرة، وكان كل منا يحرص على عمل شباك لخيمته، يغلقه في أيام البرد، ويفتحه عند القائلة، ولن أذكرك أن تضع له شبكا، احتياطا من دخول الحشرات، والحقيقة أن تلك حيلة تضحك بها على نفسك، لأن الحشرات لم تفارق خيامنا.
مساحة الشوادر
وبخصوص المساحة، فمساحة خيمة الشادر (3 * 2,5)، أما الخيمة الجاهزة فمساحتها (4*4)، وكان عددنا فيها (8)، ومن استقروا في الفصول الدراسية في المدارس، لم يكن حالهم أفضل، ففي الفصل الواحد، ترى أسرا بكل أفرادها، والله المستعان.
وهذه الخيمة التي أحدثك عنها الآن، هي الخيمة الجاهزة، وهي أكثر دفئا من خيام الشادر، ففي الشتاء كانت مقرا مميزا.
وأنت على تلك الحال، أرجو ألا تتأذى إذا وصلت أصابع أحدهم قرب أنفك أو عينك، وركلت قدم ملاصقك لطيف النوم رأسك، فأقضت مضجعك، واعذرني فهذا وذاك حدثا بالفعل.
لكن ما أجمل تلك الحوارات، والفكاهات، التي تتردد بين جنبات الخيمة الدافئة بحب أفرادها لبعضهم، وحرص كل منهم على الآخر، وسؤاله عنه إذا تأخر.
وكم كان لوجود العم أبو عبد الله مشتهى، والعم أبو أيمن الحلو، نكهة فريدة، فكانت نوادرهما لذيذة، حتى حدة نقاشهما، لم تكن كأي نقاش حاد آخر، بل كان مزيجا من الجد والطرافة، فإذا رأيناهما على تلك الحال صمتنا برهة، ثم ضحكنا، وضحكا معنا.
بعد ذلك وقبله، نعود لراديو العم أبو عبد الله، نسمع خبرا فنتفاءل، ثم يصدعنا خبر آخر فنتشاءم، لكننا نتذكر ان الأمر بيد الله، فنفوض الأمر إليه سبحانه.
أما خيمة الشادر، فحارة جداً صيفاً، باردة شتاء، وعن يمينك ويسارك يعيش فيها رفيق لا مفر منه، إنها: الذبابة المزعجة، التي لا تصد ولا ترد، تشاركك طعامك، وشرابك، ونهارك، وليلك، وغطاءك، ونومك، وأضف إلى ذلك: بكاء الصبيان واقتتالهم، فذلك كله يخطف النوم من عينيك.
بداية إنتشار الخيام:
انتشرت الخيام في كل مكان: المستشفيات، والمدارس، والأندية، والمؤسسات، والشوارع، والأرصفة، والساحات، والأراضي المفتوحة، وشاطئ البحر، وكان ذلك أشبه بما عاشه أجدادنا، بعد تهجيرهم عام 1948، فرجونا ألا يطول بنا المقام فيما نحن فيه.
والمحظوظون مثلي زينوا الخيمة، برفوف لأدوات المطبخ، أقصد لثلاث كاسات، وأربعة صحون، ومعلقتان، وشوكة، وسكينة، هذا كان في زاوية، وبجوارها دلو للجلي، وآخر للاستحمام، فإذا قصرت اليد عن الشراء، كان واحداً لكلتا الوظيفتين.
سأخبرك أيها القارئ العزيز بأمر فظيع عملته، لما انتقلت إلى خيمة خاصة، فبعد يومين اشتريت سريرين، انتظر لحظة، كأني أراك تتهمني بالبرجوازية، لا تتراجع فأنا رميت نفسي بأكثر من ذلك، فما عساي أن أفعل؟ والفرشة على الأرض كسرت أضلاعي، أتعلم أني كلما رأيت كبار السن ينامون على الأرض، وفي شدة البرد، بكى قلبي ألماً، ثم أرفع بصري نحو السماء، فأدعوه سبحانه: أن يلطف بهؤلاء العجائز.
والخيمة هذه، وهي بيتي الآن، وكل ما أملك من الدنيا، كما أخبرتك عن مساحتها، فإذا أخذت بالحسبان مساحة السريرين، وخزانة صغيرة للملابس المحدودة، وما تيسر من أغراض المطبخ، وجالونات الماء، وغيرها من الكراكيع، يبقي متر ونصف عرضا، ومثلها طولا، أو أقل بقليل، وهذه المساحة؛ لإعداد الطعام، وتناوله، والصلاة…
النوم:
وهل تريد أن تعرف كيف ينام أحدنا ساعة الظهيرة في شهر يوليو، أرأيت السمك في المقلى؟! هو كذلك حال هذا المسكين، الذي فكر بهذه النية الخطيرة، تتقلب مرارا، ثم لا تلبث أن تغادر الفرن، إلى مكان أقل حرارة.
أما عن الشتاء، سيما في ديسمبر ويناير، فالبرد شديد جدا، والقيام للحمام -أجلكم الله- قرار صعب، وبعد أن يقر مشروع الذهاب إلى الحمام بالقراءة الثالثة، يصبح رفع الغطاء واجبا، وعليك توخي الحذر، من الأرض التي أصبحت طينا، بعدما أغرقها الماء، ولا تظنن نفسك بمأمن بعد وصولك للحمام، فجوانبه وسقفه من الشادر، ويا لجمال قطرات الماء وهي تسقط على رأسك وظهرك، وأروعها ما أصاب الهدف بدقة، فسقط في قفاك، فانكمشت، وارتعشت، وزفرت.
حمام الشادر هذا صنعناه في الحرب، وكان في هذه الأرض حمام من الحجارة وسقفه من الاسمنت الخفيف، فجعلناه للنساء، وحمام مماثل له في البناء والمساحة، في أرض الزبدة، فجعل للرجال. وكنا نستخدمه سيما في الاستحمام، والاستحمام في الشتاء له مذاق خاص، فقطرات الماء المتهاوية من السقف المتشقق، تنزل إحداها بجانبك أو على يدك، فتنأى بنفسك عنها، وتحسب أنك أغظتها، فإذا بأختها تسقط على ظهرك، فتتلوى، حتى تصيبك الثالثة فتجلسك أرضا.
أرجو أن تعذرني؛ إذ سرحت بك من قصة لأخرى، نعود للوضوء أيها الشجاع، والوضوء للفجر في تلك الأيام، هو جهاد ينبغي التجهز له جيدا، وما يعزينا أن اسباغ الوضوء على المكاره، رباط يضاف إلى رباطنا في أرضنا.
والعجيب أن إصابتك بالأنفلونزا أو الزكام قبل الحرب، كان يستمر معك يومان أو ثلاثة، أو أربعة أذا أردت أن تتدلل، أما الآن فخلاف ذلك كثيرا، فقد أصبت بالزكام عام 2023، وكذلك هذا العام ديسمبر 2024، وزاد مرضي على الشهر، ولا عجب فالمناعة ضعفت بسبب وجودنا في الخيام، وقلة الطعام المغذي، ولم يمنعني ذلك من أداء عملي يوميا.
وإذا كنا نحن لا نتحمل البرد، فكيف بالأطفال، وكم من الأطفال ماتوا؛ بسبب البرد، ومنهم: الطفل جمعة البطران، وعمره عشرون يوما، في دير البلح، فيما لا يزال شقيقه التوأم يتلقى الرعاية الطبية الفائقة، بقسم العناية المركزة بمستشفى شهداء الأقصى وسط قطاع غزة. وسبحان الله قرأت هذا الخبر المؤلم، ورأيت صورة الطفل المحزنة، على إحدى منصات وزارة الصحة، وأنا أكتب هذه السطور عن البرد، يوم الأحد 29 ديسمبر 2024.
خرجنا الآن من الخيمة، وعدنا إلى غزة، وبقيت ذكرياتها، ذكريات أليمة، وأخرى جميلة، ولا ندري كيف يكون مستقبلنا، لكننا نرجو أن تنتهي الخيام من حياتنا، وإلى الأبد، وأن نعود إلى فلسطين وتعود لنا..
اترك تعليقاً